فصل: ما يتعلق بالقرب من أحكام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


كيفية القِران

14 - هي أن يحرم بالعمرة والحجّ معاً من الميقات أو قبله، لا بعده‏.‏

وميقات إحرام القارن هو ميقات إحرام المفرد عند الجمهور، وقال المالكية‏:‏ ميقات القارن هو ميقات العمرة، وعلى ذلك فمن كان آفاقيّاً فإنه يحرم من الميقات الخاصّ به، ومن كان غير ذلك فلا قران له عند الحنفية، وله عند الجمهور القران، ولا دم عليه، فيحرم من موضعه إلا عند المالكية، فيجب أن يخرج إلى الحلّ فيحرم بالقران‏.‏

‏(‏ر‏:‏ إحرام ف /40 و 52‏)‏‏.‏

15 - وكيفية إحرام القارن، أنه بعدما يستعدّ للإحرام يقول ناوياً بقلبه‏:‏ اللهم إنّي أريد العمرة والحج فيسّرهما لي وتقبلهما منّي، أو نويت العمرة والحج وأحرمت بهما لله تعالى، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك‏.‏ إن الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك، ثم يقول‏:‏ لبيك بعمرة وحجة‏.‏

ويجوز أن يحرم بالحجّ والعمرة متعاقباً، بأن يكون أحرم بالعمرة، ثم يحرم بالحجّ إضافةً إلى العمرة ‏(‏ر‏:‏ إحرام ف /117‏)‏‏.‏

فإذا انعقد الإحرام قارناً، فإنه عند المالكية والشافعية والحنابلة يفعل ما يفعل الحاجّ المفرد، ويطوف طواف القدوم، ويسعى بعده إن أراد تقديم السعي، ثم يقف بعرفة وهكذا إلى آخر أعمال الحجّ، ويذبح هدياً يوم النحر‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏هدي‏)‏‏.‏

وأما عند الحنفية‏:‏ فإن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين‏:‏ طواف وسعي لعمرته، وطواف وسعي لحجته، وكيفية أدائه للقران‏:‏ إذا انعقد إحرامه قارناً دخل مكة، وابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط، يرمل في الثلاثة الأولى منها، ويضطبع فيها كلّها، ثم يسعى بعدها بين الصفا والمروة، وهذه أفعال العمرة، ثم يبدأ بأفعال الحجّ، فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط، ويسعى بعده سعي الحجّ إن أراد تقديم سعي الحجّ عن يوم النحر ‏(‏ر‏:‏ سعي‏)‏ وعندئذ يرمل في الطواف الثاني ويضطبع‏;‏ لأن الرمل والاضطباع سنة في كلّ طواف بعده سعي، ثم يتابع أعمال الحجّ كما في الإفراد، ويذبح هدياً إلى آخره‏.‏‏.‏‏.‏ لكن لا يتحلل بما أداه من أفعال العمرة ولا يحلق، لأنه محرم بالحجّ ووقت تحلّله يوم النحر‏.‏

تحلّل القارن

16 - للقارن تحلّلان‏:‏ التحلّل الأول‏:‏ ويسمى أيضاً الأصغر‏.‏

ويحصل بالحلق عند الحنفية، وبرمي جمرة العقبة وحده عند المالكية والحنابلة، وبفعل اثنين من ثلاثة عند الشافعية، وهي الرمي، والحلق، والطواف، أي طواف الزّيارة المسبوق بالسعي، وإلا فلا يحلّ حتى يسعى بعد طواف الزّيارة‏.‏

والمفرد والقارن والمتمتّع في ذلك سواء عندهم جميعاً، حتى الشافعية لأن الذبح لا مدخل له في التحلّل عند الشافعية‏.‏

ويحلّ بالتحلّل الأول جميع محظورات الإحرام إلا الجماع‏.‏

وأما التحلّل الثاني‏:‏ ويسمى التحلّل الأكبر‏:‏

فتحلّ به جميع محظورات الإحرام حتى النّساء إجماعاً‏.‏

ويحصل التحلّل الأكبر عند الحنفية والمالكية بطواف الإفاضة بشرط الحلق هنا باتّفاق الطرفين، وزاد المالكية أن يكون الطواف مسبوقاً بالسعي، وقال الحنفية‏:‏ لا مدخل للسعي في التحلّل لأنه واجب مستقلّ‏.‏

وعند الشافعية والحنابلة‏:‏ يحصل باستكمال أفعال التحلّل الثّقة التي ذكرناها‏.‏

هَدْيُ القران

17 - يجب باتّفاق الفقهاء على القارن هدي يذبحه أيام النحر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏‏.‏ لأن القارن في حكم المتمتّع‏.‏

قال القرطبيّ‏:‏ ‏"‏وإنما جعل القران من باب التمتّع‏;‏ لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرةً وإلى الحجّ أخرى، ويتمتع بجمعهما ولم يحرم لكلّ واحدة من ميقاته، وضم الحج إلى العمرة، فدخل تحت قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏، وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم‏;‏ ولأنه إذا وجب على المتمتّع لأنه جمع بين نسكين في وقت أحدهما فلأن يجب على القارن وقد جمع بينهما في الإحرام أولى‏.‏

وأدنى ما يجزئ فيه شاة، والبقرة أفضل، والبدنة أفضل منهما‏.‏

واختلفوا في موجب هذا الهدي، فقال الجمهور ومنهم الحنفية والمالكية والحنابلة‏:‏ هو دم شكر، وجب شكراً لله لما وفقه إليه من أداء النّسكين في سفر واحد، فيأكل منه ويطعم من شاء ولو غنيّاً، ويتصدق‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ هو دم جبر، على الصحيح في مذهبهم، فلا يجوز له الأكل منه، بل يجب التصدّق بجميعه‏.‏

والتفصيل في ‏(‏هدي‏)‏‏.‏

ومن عجز عن الهدي فعليه بالإجماع صيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏‏.‏ والتفصيل في مصطلح ‏(‏تمتّع ف /17 - 20، وهدي‏)‏‏.‏

صيرورة التمتّع قراناً

18 - إذا ساق المتمتّع الهدي كما هو السّنة‏.‏

فقال الحنفية والحنابلة‏:‏ لا يحلّ المتمتّع الذي ساق الهدي بأفعال العمرة، ولا يحلق، ولو حلق لم يتحلل من إحرامه بالعمرة، ويكون حلقه جنايةً على إحرام العمرة، ويلزمه دم لجنايته هذه، بل يظلّ حراماً، ثم يهلّ يوم التروية بالحجّ، ويفعل ما يفعله الحاجّ - لكن يسقط عنه طواف القدوم - حتى يحل يوم النحر منهما‏.‏

قال الحنفية‏:‏ إنه يصير قارناً، وهو المعتمد عند الحنابلة‏.‏

وذهب المالكية، والشافعية، وهو قول عند الحنابلة إلى أن المتمتّع الذي ساق الهدي كالذي لم يسقه، يتحلل بأداء العمرة، ويمكث بمكة حلالاً حتى يحرم بالحجّ‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏تمتّع ف /15‏)‏‏.‏

جنايات القارن على إحرامه

19 - بناءً على الخلاف في القارن، هل يجزئه طواف واحد وسعي واحد لحجته وعمرته‏.‏ كما هو مذهب الجمهور، أو لا بد له من طوافين وسعيين لهما كما هو مذهب الحنفية، اختلفوا في كفارات محظورات الإحرام للقارن‏.‏

فالجمهور سووا بين القارن وغيره في كفارات محظورات الإحرام‏.‏

أما الحنفية فقالوا‏:‏ ‏"‏كلّ شيء فعله القارن بين الحجّ والعمرة - مما ذكرنا - أنه يجب فيه على المفرد بجنايته دم فعلى القارن فيه دمان، لجنايته على الحجّ والعمرة، فيجب عليه دم لحجته ودم لعمرته، وكذا الصدقة ‏"‏‏.‏

والتفصيل في ‏(‏إحرام ف /147 - 169‏)‏‏.‏

وهذا إنما يعني به الجنايات التي لا اختصاص لها بأحد النّسكين، كلبس المخيط، والتطيّب، والحلق، والتعرّض للصيد، وأشباهها يلزم القارن فيها جزاءان‏.‏

أما ما يختصّ بأحد النّسكين، فلا يجب إلا جزاء واحد، كترك الرمي، وترك طواف الوداع‏.‏ ومثل القارن في ذلك كلّ من جمع بين الإحرامين، كالمتمتّع الذي ساق الهدي، أو الذي لم يسقه لكن لم يحل من العمرة حتى أحرم بالحجّ، وكذا كلّ من جمع بين الحجتين أو العمرتين، كمن أحرم بهما معاً، فقد ذهب الحنفية إلى انعقاد الإحرام بهما وعليه قضاء أحدهما ولا ينعقد إحرامه بهما عند الجمهور ‏(‏ر‏:‏ إحرام ف /22 - 29‏)‏‏.‏

أما جماع القارن، ففيه تفصيل سبق في مصطلح ‏(‏إحرام ف /178‏)‏‏.‏

قُرْب

التعريف

1 - القرب في اللّغة‏:‏ ضدّ البعد، يقال‏:‏ قربت منه أقرب قرباً وقرباناً أي دنوت منه وباشرته، ويتعدى بالتضعيف فيقال‏:‏ قرّبته‏.‏

ويستعمل ذلك في المكان، وفي الزمان، وفي النّسبة، وفي الحظوة، وفي الرّعاية، والقدرة، وقيل‏:‏ القرب في المكان، والقربة في المنزلة، والقرابة في الرحم‏.‏

ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن معناه اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

البعد‏:‏

2 - البعد ضدّ القرب، يقال‏:‏ بَعُدَ الشيء بعداً فهو بعيد، والجمع بُعَداء، ويتعدى بالباء وبالهمزة فيقال‏:‏ بعدت به جعلته بعيداً، وأبعدته‏:‏ نحيته بعيداً‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنيّ اللّغويّ‏.‏

وعلاقة البعد بالقرب الضّدية‏.‏

قال الراغب الأصفهانيّ‏:‏ البعد ضدّ القرب، وليس لهما حدّ محدود وإنما ذلك بحسب اعتبار المكان بغيره، يقال ذلك في المحسوس وهو الأكثر، وفي المعقول‏.‏

ما يتعلق بالقرب من أحكام

أ - في الإرث‏:‏

3 - أجمع الفقهاء على أن الأقرب من العصبة الوارثين مقدم على غيره في الإرث، فلا يرث ابن ابن مع ابن صلب أو مع ابن ابن أقرب منه، وذلك استناداً إلى حديث‏:‏ «ألْحِقُوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» وأولى الواردة في الحديث معناه أقرب بإجماع الفقهاء‏.‏ والتفصيل في مصطلح ‏(‏إرث ف /45، 54‏)‏‏.‏

ب - في ولاية النّكاح‏:‏

4 - جاء في المغني‏:‏ أحقّ الناس بإنكاح المرأة الحرة أبوها ولا ولاية لأحد معه‏;‏ لأنه أكمل نظراً وأشدّ شفقةً فوجب تقديمه في الولاية، ثم أبو الأب أي الجدّ وإن علا، ثم ابنها وابنه وإن سفل‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏ولاية‏)‏‏.‏

حكم إنكاح الوليّ الأبعد مع وجود الأقرب

5 - ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه إذا زوج المرأة الوليّ الأبعد مع حضور الوليّ الأقرب بغير إذن الوليّ الأقرب لم يصح النّكاح‏;‏ لأن الولي الأقرب استحق الولاية بالتعصيب فلم تثبت للأبعد مع وجود الأقرب كالميراث‏.‏

وذهب الحنفية وهو قول عند المالكية إلى أن إنكاح الوليّ الأبعد يتوقف على إجازة الوليّ الأقرب فله الاعتراض والفسخ ما لم يرض صريحاً أو دلالةً كقبضه المهر مثلاً، وما لم يسكت حتى تلد أو تحبل‏.‏

فإن رضي الوليّ الأقرب صريحاً أو دلالةً، أو سكت حتى تلد أو تحبل لم يكن له حقّ الاعتراض والفسخ، وذلك لئلا يضيع الولد بالتفريق بين أبويه، فإن بقاءهما مجتمعين على تربيته أحفظ له‏.‏

وذهب المالكية إلى أن النّكاح يكون صحيحاً إذا عقده الأبعد مع وجود الأقرب إذا لم يكن الأقرب مجبراً، فإن كان مجبراً - وهو عندهم الأب ووصيّه - فلا يصحّ تزويج الوليّ الأبعد‏.‏

والتفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏ولاية، ونكاح‏)‏‏.‏

ح - في الحضانة‏:‏

6 - ذهب الفقهاء إلى أن الأولى بالحضانة عند اجتماع الرّجال والنّساء الأمّ، واختلفوا فيما وراءها على مذاهب، على أنهم يراعون القرب في الجملة في الجهة الواحدة‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏حضانة ف /9 - 13‏)‏‏.‏

د - في العاقلة‏:‏

7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يراعى فيمن يتحمل الدّية من العاقلة أن يقدم الأقرب فالأقرب بالنّسبة إلى القاتل‏.‏

وذهب الحنفية إلى أن الدّية تلزم أهل الدّيوان، فإن لم يكن ديوان وجبت على القبيلة من النسب‏.‏ والتفصيل في مصطلح ‏(‏عاقلة ف /3‏)‏‏.‏

هـ - في قدر المسافة التي يترخص فيها في السفر‏:‏

8 - ذكر الفقهاء أن من رخص السفر ما يختصّ بالسفر الطويل، ومنها ما لا يختصّ به، ومنها ما هو مختلف فيه‏.‏

قال الشافعية‏:‏ الرّخص المتعلّقة بالسفر ثمانية‏:‏ ثلاثة تختصّ بالطويل وهي‏:‏ القصر، والفطر في رمضان، ومسح الخفّ ثلاثة أيام، واثنان يجوزان في الطويل والقصير وهما‏:‏ ترك الجمعة وأكل الميتة، وثلاثة في اختصاصها بالطويل قولان وهي‏:‏ الجمع بين الصلاتين وإسقاط الفرض بالتيمّم وجواز التنفّل على الراحلة، والأصحّ اختصاص الجمع بالسفر الطويل، عدم اختصاص السفر الطويل بجواز التنفّل على الراحلة وإسقاط الفرض بالتيمّم‏.‏

قال السّيوطيّ‏:‏ واستدرك ابن الوكيل رخصةً تاسعةً صرح بها الغزاليّ رحمه الله وهي‏:‏ ما إذا كان له نسوة وأراد السفر فإنه يقرع بينهن ويأخذ من خرجت لها القرعة ولا يلزمه القضاء لضراتها إذا رجع، وهل يختصّ ذلك بالطويل وجهان أصحّهما‏:‏ لا‏.‏

قال ابن نجيم‏:‏ من رخص السفر ما يختصّ بالطويل وهو ثلاثة أيام ولياليها وهو‏:‏ القصر والفطر والمسح أكثر من يوم وليلة وسقوط الأضحية، وما لا يختصّ به، بل المراد به مطلق الخروج عن المصر وهو‏:‏ ترك الجمعة والعيدين والجماعة والنفل على الدابة وجواز التيمّم واستحباب القرعة بين نسائه‏.‏

وللتفصيل انظر مصطلح ‏(‏جمع الصلوات ف /3، وسفر ف /7، 11‏)‏‏.‏

و - في انتقال الحاضن‏:‏

9 - اختلف الفقهاء في انتقال الحضانة من الحاضن إلى من يليه في الترتيب بالسفر بعداً أو قرباً، فذهب بعضهم إلى أن الحضانة تنتقل بالسفر البعيد دون القريب، وسوى آخرون في الانتقال بين السفر البعيد والقريب‏.‏

والتفصيل مصطلح ‏(‏حضانة ف /15‏)‏‏.‏

ز - في سفر المعتدة وعودتها‏:‏

10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز للمعتدة أن تنشئ سفراً قريباً كان هذا السفر أو بعيداً، بل يجب عليها أن تلزم بيت الزوجية الذي كانت تسكنه وإن كان هذا السفر لأجل الحجّ، إلا أنهم اختلفوا فيما إذا خرجت ثم طرأت عليها العدة هل عليها أن تعود لتعتد في بيتها، أم يجوز لها أن تمضي في سفرها‏؟‏ وهل السفر القريب في ذلك يختلف عن السفر البعيد‏؟‏‏.‏ والتفصيل في مصطلح ‏(‏إحداد ف /19، 20، 22‏.‏ 23‏)‏‏.‏

قربان

انظر‏:‏ قربة‏.‏

قُرْبَة

التعريف

1 - القُربة - بسكون الراء والضمّ للإتباع - في اللّغة ما يتقرب به إلى الله تعالى، والجمع قُرَب وقُرُبات‏.‏

والقُربان - بالضمّ - ما قُرِّب إلى الله تعالى، تقول منه‏:‏ قربت لله قرباناً، وتقرب إلى الله بشيء، أي طلب به القربة عنده تعالى، قال الليث‏:‏ القربان‏:‏ ما قربت إلى الله تبتغي بذلك قربةً ووسيلةً‏.‏

وقد عرف الفقهاء القربة بتعريفات مختلفة‏.‏

من ذلك ما جاء في حاشية ابن عابدين‏:‏ القربة‏:‏ فعل ما يثاب عليه بعد معرفة من يتقرب إليه به وإن لم يتوقف على نية‏.‏

وفي موضع آخر قال‏:‏ القربة‏:‏ ما يتقرب به إلى الله تعالى فقط، أو مع الإحسان إلى الناس، كبناء الرّباط والمسجد‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العبادة‏:‏

2 - العبادة في اللّغة‏:‏ الطاعة مع الخضوع، قال ابن الأنباريّ‏:‏ فلان عابد، وهو الخاضع لربّه المستسلم المنقاد لأمره‏.‏

وفي الاصطلاح قال ابن عابدين‏:‏ هي ما يثاب على فعله ويتوقف على نية‏.‏

أو هي‏:‏ فعل لا يراد به إلا تعظيم الله تعالى بأمره‏.‏

والصّلة بين القربة والعبادة هي أن القربة أعمّ من العبادة، فقد تكون القربة عبادةً وقد لا تكون، كما أن العبادة تتوقف على النّية، والقربة التي ليست عبادةً لا تتوقف على النّية‏.‏

ب - الطاعة‏:‏

3 - الطاعة في اللّغة‏:‏ الانقياد والموافقة، يقال‏:‏ أطاعه إطاعةً، أي انقاد له،والاسم‏:‏ طاعة‏.‏ وعرفها الفقهاء بعدة تعريفات، منها ما جاء في الكلّيات‏:‏ الطاعة‏:‏ فعل المأمورات ولو ندباً وترك المنهيات ولو كراهةً‏.‏

والصّلة بين القربة والطاعة هي‏:‏ أن القربة أخصّ من الطاعة، لاعتبار معرفة المتقرب إليه في القربة‏.‏

وقد نقل ابن عابدين عن شيخ الإسلام زكريا في التفريق بين القربة والعبادة والطاعة، أن القربة‏:‏ فعل ما يثاب عليه بعد معرفة من يتقرب إليه به وإن لم يتوقف على نية‏.‏

والعبادة‏:‏ ما يثاب على فعله ويتوقف على نية‏.‏

والطاعة‏:‏ فعل ما يثاب عليه، توقف على نية أو لا، عرف من يفعله لأجله أو لا، فنحو الصلوات الخمس والصوم والزكاة والحجّ من كلّ ما يتوقف على النّية قربة وطاعة وعبادة، وقراءة القرآن والوقف والعتق والصدقة ونحوها مما لا يتوقف على نية قربة وطاعة لا عبادة، والنظر المؤدّي إلى معرفة الله تعالى طاعة لا قربة ولا عبادة، والنظر ليس قربةً، لعدم المعرفة بالمتقرب إليه‏;‏ لأن المعرفة تحصل بعده‏.‏

الحكم التكليفيّ

4 - من القرب ما هو واجب، وذلك كالفرائض التي افترضها الله على عباده، من صلاة وصوم وحجّ وزكاة، فهي عبادات مقصودة شرعت للتقرّب بها، وعلم من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق إيقاعها عبادةً‏.‏

ومن القرب الواجبة القرب التي يُلزِم الإنسان بها نفسه بالنذر‏.‏

ومنها ما هو مندوب، كالنوافل وقراءة القرآن والوقف والعتق والصدقة وعيادة المريض واتّباع الجنازة‏.‏

ومنها ما هو مباح، إذ أن المباحات تكون قربةً بنية إرادة الثواب بها، كالأفعال العادية التي يقصد بها القربة، كالطعام بنية التقوّي على الطاعة‏.‏

ومن القربات ما هو حرام، وذلك كالقربات المالية، كالعتق والوقف والصدقة والهبة إذا فعلها الإنسان وكان عليه دين أو كان عنده من تلزمه نفقته مما لا يفضل عن حاجته‏;‏ لأن ذلك حقّ واجب فلا يحلّ تركه لسنة‏.‏

ومن ذلك أيضاً الغلوّ في الدِّين على ظنّ أنه قربة، فقد أنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون رضي الله عنه التزامه قيام الليل وصيام النهار واجتناب النّساء، وقال له‏:‏ «أرغبت عن سنتي‏؟‏ فقال‏:‏ لا وألله يا رسول الله، لكن سنتك أطلب‏.‏ قال‏:‏ فإنّي أنام وأصلّي وأصوم وأفطر وأنكح النّساء»، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عما عزم عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرد الصوم وقيام الليل والاختصاء، وكانوا قد حرموا على أنفسهم الفطر والنوم ظنّاً أنه قربة إلى ربّهم فنهاهم عن ذلك‏;‏ لأنه غلوّ في الدّين واعتداء على ما شرع، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏‏.‏

وقد تكون القربة مكروهةً، وذلك كالتصدّق بجميع ما يملك، وكان في ذلك مشقة لا يصبر عليها، وكالوصية من الفقير الذي له ورثة‏.‏

من تصحّ منه القربة

5 - القربات إما أن تكون عبادةً كالصلاة والصّيام، أو غير عبادة كالتبرّعات من صدقة ووصية ووقف‏.‏

فإن كانت القربات من العبادات، فإنه يشترط فيمن تصحّ منه أن يكون مسلماً، فلا تصحّ قربات العبادة من الكافر‏;‏ لأنه ليس من أهل العبادة، والصغير المميّز تصحّ عباداته ويثاب عليها، قال النوويّ‏:‏ يكتب للصبيّ ثواب ما يعمله من الطاعات‏:‏ كالطهارة والصلاة والصوم، والزكاة والاعتكاف والحجّ والقراءة، وغير ذلك من الطاعات، والدليل على ذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين»، وحديث صلاة ابن عباس مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحديث تصويم الصحابة الصّبيان يوم عاشوراء، فعن الرُّبيّع بنت معوّذ قالت‏:‏ «أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار‏:‏ من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن أصبح صائماً فليصم‏.‏ قالت‏:‏ فكنا نصومه بعد ونصوّم صبياننا، ونجعل لهم اللّعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطياه ذاك حتى يكون عند الإفطار»‏.‏

واختلف الفقهاء في المجنون والصبيّ غير المميّز، مع العلم بأن الزكاة تجب في مالهما عند جمهور الفقهاء‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏صغر ف /32، ومصطلح جنون ف /11‏)‏‏.‏

وإن كانت القربات من غير العبادات، كالوقف والوصية والعارية وعيادة المرضى وتشييع الجنائز، فإنه يشترط فيما هو ماليّ منها أهلية التبرّع من عقل وبلوغ ورشد، وهذا في الجملة إذ أجاز بعض الفقهاء وصية الصبيّ المُميِّز‏.‏

ولا يشترط الإسلام‏;‏ لأن وقف الكافر وعتقه ووصيته وصدقته صحيحة، من حيث إن هذه عقود مالية وليست قربات بالنّسبة للكافر‏.‏

نيَّة القربة

6 - من القربات ما لا يفتقر إلى نية، ومنها ما يفتقر إلى النّية‏.‏

أولاً‏:‏ القربات التي لا تحتاج إلى نية هي كما يقول القرافيّ‏:‏ التي لا لبس فيها، كالإيمان بألله تعالى، وتعظيمه وإجلاله، والخوف من نقمه، والرجاء لنعمه، والتوكّل على كرمه، والحياء من جلاله، والمحبة لجماله، والمهابة من سلطانه، وكذلك التسبيح والتهليل، وقراءة القرآن، وسائر الأذكار، فإنها متميّزة لجنابه سبحانه وتعالى‏.‏

ثانياً‏:‏ القربات التي تحتاج إلى نية، وهي‏:‏ العبادات، من صلاة وصيام وحجّ، وسواء أكانت واجبةً أم مندوبةً، فإن المقصود من هذه العبادات تعظيم الله سبحانه وتعالى بفعلها، والخضوع له في إتيانها، وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله سبحانه وتعالى، فإن التعظيم بالفعل بدون المعظم محال، فهذا القسم هو الذي أمر فيه الشرع بالنّيات، ونية التقرّب في العبادات هي إخلاص العمل لله تعالى، يقول سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏‏.‏

ونية القربة إنما هي لتمييز العبادات عن العادات، ليتميز ما لله عن ما ليس له، أو تمييز مراتب العبادات في أنفسها، لتتميز مكافأة العبد على فعله، ويظهر قدر تعظيمه لربّه‏.‏

فمن أمثلة ما تكون نية القربة فيه لتمييز العبادة عن العادة‏:‏ الغسل، يكون تبرّداً وعبادةً، ودفع الأموال، يكون صدقةً شرعيةً ومواصلةً عرفيةً، والإمساك عن المفطرات، يكون عبادةً وحاجةً، وحضور المساجد، يكون مقصوداً للصلاة وتفرّجاً يجري مجرى اللذات، والذبح، قد يكون بقصد الأكل، وقد يكون للتقرّب بإراقة الدّماء، فشرعت النّية لتمييز القرب من غيرها‏.‏ أما نية القربة في العبادات، فهي لتمييز مراتب العبادات في نفسها، لتتميز مكافأة العبد على فعله، ومن أمثلة ذلك‏:‏ الصلاة، تنقسم إلى فرض ومندوب، والفرض ينقسم إلى الصلوات الخمس قضاءً وأداءً، والمندوب ينقسم إلى راتب كالعيدين والوتر، وغير راتب كالنوافل، وكذلك القول في قربات المال والصوم والنّسك‏.‏

ثالثاً‏:‏ الأعمال الواجبة المأمور بها من غير العبادات أو المنهيّ عنها لا تعتبر قربات في ذاتها، لكنها يمكن أن تصبح قربات إذا نوى بها القربة، ومن ذلك الواجبات التي تكون صور أفعالها كافيةً في تحصيل مصالحها، كدفع الدّيون، وردّ المغصوب، ونفقات الزوجات، والأقارب، وعلف الدوابّ ونحو ذلك، فإن المصلحة المقصودة من هذه الأمور انتفاع أربابها، وذلك لا يتوقف على قصد الفاعل لها، فيخرج الإنسان عن عهدتها، وإن لم ينوها، فمن دفع دينه غافلاً عن قصد التقرّب أجزأ عنه، أما إن قصد القربة في هذه الصّور بامتثال أمر الله تعالى حصل له الثواب، وإلا فلا‏.‏

ومثل ذلك المنهيّ عنه من الأعمال، يخرج الإنسان من عهدته بمجرد الترك فإن نوى بتركها وجه الله العظيم، فإن الترك يصير قربةً ويحصل له من الخروج عن العهدة الثواب لأجل نية القربة‏.‏

وأما المباحات فإن صفتها تختلف باعتبار ما قصدت لأجله، فإذا قصد بها التقوّي على الطاعات، أو التوصّل إليها كانت عبادةً وقربةً يثاب عليها‏.‏

وفي المنثور‏:‏ قال القاضي حسين‏:‏ عيادة المريض واتّباع الجنازة وردّ السلام قربة لا يستحقّ الثواب عليها إلا بالنّية‏.‏ وقطع السرقة واستيفاء الحدود من الإمام قربة، ولا يثاب على فعله إلا بالنّية، وإن لم ينو لم يثب‏.‏

الثواب على القربات فضل من الله تعالى

7 - يثاب الإنسان ويعاقب على كسبه واكتسابه، سواء كان ذلك بمباشرة أو بتسبّب، يقول الله تعالى ‏{‏إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏، وقال تعالى ‏{‏وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏، أي ليس له إلا جزاء سعيه، وقال تعالى ‏{‏وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا‏}‏، والغرض بالتكاليف تعظيم الإله بطاعته، واجتناب معصيته، وذلك مختصّ بفاعليه‏.‏

والثواب على العمل فضل من الله تعالى، يقول الكاسانيّ‏:‏ الثواب من الله تعالى إنما هو فضل منه، ولا استحقاق لأحد عليه، فله أن يتفضل على عمل لأجله بجعل الثواب له، كما له أن يتفضل بإعطاء الثواب على غير عمل رأساً‏.‏

أثر القصد في الثواب على القربة

8 - قسم العزّ بن عبد السلام ما يثاب عليه الإنسان إلى ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ ما تميز لله بصورته، فهذا يثاب عليه مهما قصد إليه، وإن لم ينو به القربة كالمعرفة والإيمان والأذان والتسبيح والتقديس‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما لم يتميز من الطاعات لله بصورته، فهذا لا يثاب عليه إلا بنيتين‏:‏

إحداهما‏:‏ نية إيجاد الفعل، والثانية‏:‏ نية التقرّب به إلى الله عز جل، فإن تجرد عن نية التقرّب أثيب على أجزائه التي لا تقف على نية القربة كالتسبيحات والتكبيرات والتهليلات الواقعة في الصلوات الفاسدة‏.‏

والقسم الثالث‏:‏ ما شرع للمصالح الدّنيوية ولا تتعلق به المصالح الأخروية إلا تبعاً، كإقباض الحقوق الواجبة، وفروض الكفايات التي تتعلق بها المصالح الدّنيوية كالصنائع التي يتوقف عليها بقاء العالم، فهذا لا يؤجر عليه إذا قصد إليه إلا أن ينوي به القربة إلى الله عز جل‏.‏

وقد يقوم الإنسان بعمل ويستوفي شروطه وأركانه، ولكنه لا يستحقّ عليه ثواباً لما يقترن به من المقاصد والنوايا، ولذلك يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما الأعمال بالنّية، وإنما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»‏.‏

كما قد يُتبع الإنسان العمل الصحيح بما يضيّع ثوابه، ومن ذلك المنّ والأذى يبطل ثواب الصدقة، لقوله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى‏}‏‏.‏

وقد يعمل الإنسان العمل فيثاب عليه ولو لم يقع الموقع الصحيح، فقد ورد حديثان يؤيّدان هذا المعنى، أحدهما‏:‏ حديث المتصدّق الذي وقعت صدقته في يد سارق وزانية وغنيّ وفي نهاية الحديث «أن الرجل أتي فقيل له‏:‏ أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغنيّ فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله»‏.‏ والحديث الثاني‏:‏ حديث معن بن يزيد الذي أخذ صدقة أبيه من الرجل الذي وضعت عنده، وقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن»، قال ابن حجر‏:‏ وهذا يدلّ على أن نية المتصدّق إذا كانت صالحةً قبلت صدقته وإن لم تقع الموقع‏.‏

نقل ثواب القربة للغير

9 - تنقسم القربات إلى ثلاثة أقسام‏:‏ قسم حجر الله تعالى على عباده في ثوابه، ولم يجعل لهم نقله لغيرهم، كالإيمان والتوحيد، فلو أراد أحد أن يهب قريبه الكافر إيمانه ليدخل الجنة دونه لم يكن له ذلك، وكذلك هبة ثواب ما سبق مع بقاء الأصل، لا سبيل إليه‏.‏

وقسم اتفق الفقهاء على أن الله تعالى أذن في نقل ثوابه،وهو القربات المالية كالصدقة والعتق‏.‏ وقسم اختلف فيه، فذهب الحنفية والحنابلة إلى جواز نقل ثواب ما أتى به الإنسان من العبادة لغيره من الأحياء والأموات، يقول الكاسانيّ‏:‏ من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز، ويصل ثوابه إليهم عند أهل السّنة والجماعة، وقد ورد ‏"‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا أراد أن يضحّي اشترى كبشين عظيمين سمينين أملحين أقرنين موجوءين، فيذبح أحدهما عن أمته ممن شهد بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد صلى الله عليه وسلم وآل محمد»‏.‏

وورد عن عائشة رضي الله عنها «أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أمّي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها‏؟‏ قال‏:‏ نعم، تصدق عنها»‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ وعلى ذلك عمل المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، من زيارة القبور وقراءة القرآن عليها، والتكفين والصدقات والصوم والصلاة، وجعل ثوابها للأموات‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ أي قربة فعلها الإنسان وجعل ثوابها للميّت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله تعالى‏:‏ كالدّعاء والاستغفار، والصدقة والواجبات التي تدخلها النّيابة‏.‏

وعند المالكية لا يجوز نقل ثواب الصلاة والصّيام والحجّ وقراءة القرآن إلى الغير، ولا يحصل شيء من ثواب ذلك للميّت، لقوله تعالى ‏{‏وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة‏:‏ إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، ويجوز فيما عدا ذلك كالصدقات‏.‏

ومثل ذلك عند الشافعية في الجملة، جاء في مغني المحتاج‏:‏ تنفع الميّت صدقة عنه، ووقف وبناء مسجد، وحفر بئر ونحو ذلك ودعاء له من وارث وأجنبيّ، والمشهور أنه لا ينفعه غير ذلك كالصلاة وقراءة القرآن لكن حكى النوويّ في شرح مسلم والأذكار وجهاً، أن ثواب القراءة يصل إلى الميّت، واختاره جماعة من الأصحاب‏.‏

الأجر على القربات

10 - القربات التي تجب على الإنسان ولا يتعدى نفعها فاعلها كالصلاة والصّيام لا يجوز أخذ الأجر عليها‏;‏ لأن الأجر عوض الانتفاع ولم يحصل لغيره هاهنا انتفاع‏;‏ ولأن من أتى بعمل واجب عليه لا يستحقّ عليه أجرةً، وكذلك الجهاد لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأنه يقع عنه‏;‏ ولأنه إذا حضر الصف تعين عليه، وهذا باتّفاق‏.‏

أما غير ذلك من القربات التي يتعدى نفعها للغير كالأذان والإقامة وتعليم القرآن والفقه والحديث، فعند الشافعية والمالكية وفي رواية عن الإمام أحمد يجوز أخذ الأجرة على ذلك، لكن كره المالكية أخذ الأجرة على تعليم الفقه والفرائض‏.‏

وعند الحنفية وهو رواية عن الإمام أحمد، لا يجوز أخذ الأجرة على ذلك‏;‏ لأن من شرط صحة هذه الأفعال كونها قربةً لله تعالى فلم يجز أخذ الأجر عليها‏.‏

لكن أجاز متأخّرو الحنفية أخذ الأجرة على تعليم القرآن استحساناً ومثل ذلك الإمامة والأذان للحاجة‏.‏

أما ما يقع تارةً قربةً وتارةً غير قربة، كبناء المساجد والقناطر، فيجوز أخذ الأجرة عليه‏.‏

وما يؤخذ من بيت المال على القربات التي لا يجوز أخذ الأجرة عليها كالقضاء، لا يعتبر أجراً، يقول ابن تيمية‏:‏ ما يؤخذ من بيت المال ليس عوضاً وأجرةً، بل رزق للإعانة على الطاعة، فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذه فهو رزق للمعونة على الطاعة، وكذلك المال الموقوف على أعمال البرّ، والموصى به كذلك والمنذور كذلك، ليس كالأجرة‏.‏

وذهب القرافيّ إلى أن باب الأرزاق أدخل في باب الإحسان وأبعد عن باب المعاوضة، وباب الإجارة أبعد من باب المسامحة وأدخل في باب المكايسة‏.‏

ويظهر ذلك في مسائل منها‏:‏ القضاة يجوز أن يكون لهم أرزاق من بيت المال على القضاء إجماعاً، ولا يجوز أن يستأجروا على القضاء بسبب أن الأرزاق إعانة من الإمام لهم على القيام بالمصالح، لا أنه عوض عما وجب عليهم من تنفيذ الأحكام عند قيام الحجج ونهوضها، ولو استؤجروا على ذلك لدخلت التّهمة في الحكم بمعاوضة صاحب العوض، ويجوز في الأرزاق التي تطلق للقاضي الدفع والقطع والتقليل والتكثير والتغيير، ولو كان إجارةً لوجب تسليمه بعينه من غير زيادة ولا نقص‏.‏

ويقول ابن قدامة‏:‏ القضاء والشهادة والإمامة يؤخذ عليه الرّزق من بيت المال وهو نفقة في المعنى، ولا يجوز أخذ الأجرة عليها‏.‏

النّيابة في القربة

11 - من القربات ما لا تجوز النّيابة فيه في الحياة بالإجماع، وذلك كالإيمان بألله تعالى ومن ذلك العبادات البدنية المحضة، مثل الصلاة والصوم والجهاد عن الحيّ، لقول الله تعالى ‏{‏وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏، إلا ما خص بدليل، وأما قول ابن عباس‏:‏ لا يصلّي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، فذلك في حقّ العهدة لا في حقّ الثواب‏.‏

ومن القربات ما تجوز فيه النّيابة بالإجماع، وهي القربات المالية كالزكاة والصدقة والعتق والوقف والوصية والإبراء، سواء كان الإنسان قادراً على أداء هذه القربات بنفسه أو لم يكن قادراً‏;‏ لأن الواجب فيها إخراج المال، وهو يحصل بفعل النائب‏.‏

أما القربات التي تجمع بين الناحية البدنية والمالية، كالحجّ، فعند الحنفية والشافعية والحنابلة تجوز النّيابة في الحجّ، لكنهم يقيّدون ذلك بالعذر، وهو العجز عن الحجّ بنفسه، كالشيخ الفاني والزمن والمريض الذي لا يرجى برؤه‏.‏

والمشهور عند المالكية أنه لا يجوز الاستنابة في الحجّ، وقال الباجيّ‏:‏ تجوز النّيابة عن المعضوب كالزمن والهرم، وقال أشهب‏:‏ إن أجَّر صحيح من يحجّ عنه لزمه للخلاف‏.‏

أما بعد الممات، فعند الحنفية والمالكية لا تجوز النّيابة عن الميّت في صلاة أو صوم إلا ما قاله ابن عبد الحكم من المالكية من أنه يجوز أن يستأجر عن الميّت من يصلّي عنه ما فاته من الصلوات، كذلك قال الحنفية والمالكية‏:‏ من مات ولم يحج فلا يجب الحجّ عنه إلا أن يوصي بذلك، وإذا لم يوص بالحجّ عنه فتبرع الوارث بالحجّ بنفسه أو بإحجاج رجل عنه جاز، لكن مع الكراهة عند المالكية‏.‏

وعند الشافعية لا تجوز النّيابة عن الميّت في الصلاة، أما الصوم ففيه قولان لمن لم يصم حتى مات، أحدهما لا يصحّ الصوم عنه لأنه عبادة بدنية لا تدخلها النّيابة في حال الحياة فكذلك بعد الموت، والقول الثاني‏:‏ أنه يجوز أن يصوم وليّه عنه، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من مات وعليه صوم صام عنه وليّه»، وهذا الرأي هو الأظهر، أما الحجّ فمن مات بعد التمكّن ولم يؤدّ فإنه يجب القضاء من تركته، لما روى بريدة قال‏:‏ «أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمّي ماتت ولم تحج، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ حجّي عنها»‏.‏

وعند الحنابلة لا تجوز النّيابة عن الميّت في الصلاة أو الصّيام الواجبين بأصل الشرع - أي الصلاة المفروضة وصوم رمضان - لأن هذه العبادات لا تدخلها النّيابة حال الحياة فبعد الموت كذلك، أما ما أوجبه الإنسان على نفسه بالنذر، فإن كان قد تمكن من الأداء ولم يفعل حتى مات، سن لوليّه فعل النذر عنه‏.‏

الإيثار بالقُرَب

12 - قال ابن عابدين‏:‏ في حاشية الأشباه للحمويّ عن المضمرات عن النصاب‏:‏ وإن سبق أحد إلى الصفّ الأول فدخل رجل أكبر منه سنّاً أو أهل علم ينبغي أن يتأخر ويقدّمه تعظيماً له‏.‏

ا هـ _ فهذا يفيد جواز الإيثار بالقرب بلا كراهة، ونقل العلامة البيريّ فروعاً تدلّ على عدم الكراهة، ويدلّ عليه قوله تعالى ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏، وما ورد من «أنه عليه الصلاة والسلام أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام‏:‏ أتأذن لي أن أعطي هؤلاء‏؟‏ فقال الغلام‏:‏ لا وألله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً، قال‏:‏ فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده»، ولا ريب أن مقتضى طلب الإذن مشروعية ذلك بلا كراهة وإن جاز أن يكون غيره أفضل منه‏.‏ أ هـ‏.‏

أقول‏:‏ وينبغي تقييد المسألة بما إذا عارض تلك القربة ما هو أفضل منها، كاحترام أهل العلم والأشياخ كما أفاده الفرع السابق والحديث‏.‏‏.‏‏.‏، وينبغي أن يحمل عليه ما في النهر من قوله‏:‏ واعلم أن الشافعية ذكروا أن الإيثار بالقرب مكروه كما لو كان في الصفّ الأول فلما أقيمت آثر به، وقواعدنا لا تأباه‏.‏

وقال السّيوطيّ‏:‏ الإيثار في القرب مكروه، وفي غيرها محبوب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏‏.‏

قال الشيخ عزّ الدّين بن عبد السلام‏:‏ لا إيثار في القربات، فلا إيثار بماء الطهارة، ولا بستر العورة ولا بالصفّ الأول‏;‏ لأن الغرض بالعبادات التعظيم والإجلال، فمن آثر به فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه‏.‏

وقال الإمام‏:‏ لو دخل الوقت - ومعه ماء يتوضأ به - فوهبه لغيره ليتوضأ به لم يجز، لا أعرف فيه خلافاً‏;‏ لأن الإيثار إنما يكون فيما يتعلق بالنّفوس، لا فيما يتعلق بالقرب والعبادات‏.‏ وقال النوويّ في باب الجمعة‏:‏ لا يقام أحد من مجلسه ليُجلس في موضعه‏.‏ فإن قام باختياره لم يكره، فإن انتقل إلى أبعد من الإمام كره، قال أصحابنا‏:‏ لأنه آثر بالقربة‏.‏

وقال القرافيّ‏:‏ من دخل عليه وقت الصلاة، ومعه ما يكفيه لطهارته، وهناك من يحتاجه للطهارة، لم يجز له الإيثار، ولو أراد المضطرّ إيثار غيره بالطعام لاستبقاء مهجته، كان له ذلك وإن خاف فوات مهجته‏.‏

والفرق أن الحق في الطهارة لله فلا يسوغ فيه الإيثار، والحقّ في حال المخمصة لنفسه، وقد علم أن المهجتين على شرف التلف إلا واحدةً تستدرك بذلك الطعام، فحسن إيثار غيره على نفسه‏.‏

وقال الخطيب في الجامع‏:‏ كره قوم إيثار الطالب غيره بنوبته في القراءة‏;‏ لأن قراءة العلم والمسارعة إليه قربة والإيثار بالقرب مكروه‏.‏

مراتب القربات

13 - أ - أفضل القربات هو الإيمان بألله تعالى، فقد سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيّ الأعمال أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ إيمان بألله ورسوله»، جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان أفضل الأعمال، لجلبه لأحسن المصالح ودرئه لأقبح المفاسد مع شرفه في نفسه وشرف متعلقه، وثوابه الخلود في الجنان، والخلوص من النّيران وغضب الملك الديان‏.‏

ب - ثم يلي ذلك الفرائض التي افترضها الله على عباده، لما ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله تعالى قال‏:‏ من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَسَاءَته»‏.‏ جاء في فتح الباري‏:‏ يستفاد من الحديث أن أداء الفرائض أحبّ الأعمال إلى الله، وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الآمر، وتعظيمه بالانقياد إليه، وإظهار عظمة الرّبوبية، وذلّ العبودية فكان التقرّب بذلك أعظم العمل‏.‏

ج - وبعد منزلة الفرائض في القربة تكون منزلة النوافل، بدليل ما ورد في الحديث السابق، قال الفاكهانيّ‏:‏ إذا أدى العبد الفرائض وداوم على إتيان النوافل، نال محبة الله تعالى، وكلّ فريضة تقدم على نوعها من النوافل كتقديم فرائض الصلوات على نوافلها، وفرائض الصّيام على نوافله وتقديم فرائض الصدقات على نوافلها، وهكذا‏.‏

د - وإذا كانت قرب الفرائض تأتي في المرتبة الثانية بعد الإيمان فقد اختلف الفقهاء في أفضل هذه الفرائض، فقيل‏:‏ إن الصلاة أفضل الأعمال لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة»، وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى عماله‏:‏ إن أهم أموركم عندي الصلاة، وقيل‏:‏ إن الصّيام أفضل، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسيّ‏:‏ «كلّ عمل ابن آدم له إلا الصّيام فإنه لي وأنا أجزي به»، وقيل‏:‏ إن الحج أفضل الأعمال‏.‏

هـ - والقرب في فرض العين تقدم على القرب في فرض الكفاية‏;‏ لأن طلب الفعل من جميع المكلفين يقتضي أرجحيته على ما طلب من البعض فقط‏;‏ ولأن فرض الكفاية يعتمد عدم تكرار المصلحة بتكرّر الفعل، وفرض الأعيان يعتمد تكرّر المصلحة بتكرّر الفعل، والفعل الذي تتكرر مصلحته في جميع صوره أقوى في استلزام المصلحة من الذي لا توجد المصلحة معه إلا في بعض صوره‏.‏

و - على أن تقديم بعض القرب على بعض يختلف بحسب حال الإنسان، فقد سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيّ العمل أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ الصلاة لوقتها، وسئل‏:‏ أيّ الأعمال أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ برّ الوالدين، وسئل أيّ الأعمال أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ حجّ مبرور»، وهذا جواب لسؤال السائل، فيختصّ بما يليق بالسائل من الأعمال‏;‏ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما كانوا يسألون عن الأفضل إلا ليتقربوا به إلى ذي الجلال، فكأن السائل قال‏:‏ أيّ الأعمال أفضل لي فقال‏:‏ «برّ الوالدين»، لمن له والدان يشتغل ببرّهما، وقال لمن يقدر على الجهاد لما سأله عن أفضل الأعمال بالنّسبة إليه‏:‏ «الجهاد في سبيل الله»، وقال لمن يعجز عن الحجّ والجهاد‏:‏ «الصلاة لأول وقتها»‏.‏

ز - ويختلف الفقهاء في مراتب النوافل من العبادات، فقال المالكية والشافعية في المذهب‏:‏ إن نوافل الصلاة أفضل من تطوّع غيرها لأنها أعظم القربات، لجمعها أنواعاً من العبادات لا تجمع في غيرها‏.‏ وعند الحنابلة أفضل تطوّعات البدن الجهاد لقوله تعالى ‏{‏فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً‏}‏، ثم تعلّم العلم وتعليمه، ثم الصلاة‏.‏

ح - أما القرب من غير العبادات المفروضة، فمرتبتها تكون بحسب المصلحة الناشئة عنها، فقد جاء في المنثور‏:‏ مراتب القرب تتفاوت، فالقربة في الهبة أتمّ منها في القرض، وفي الوقف أتمّ منها في الهبة‏;‏ لأن نفعه دائم يتكرر، والصدقة أتمّ من الكلّ، لأن قطع حظّه من المتصدق به في الحال، وقيل‏:‏ إن القرض أفضل من الصدقة‏;‏ لأن «رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة أسري به مكتوباً على باب الجنة‏:‏ درهم القرض بثمانية عشر درهم، ودرهم الصدقة بعشر، فسأل جبريل‏:‏ ما بال القرض أفضل من الصدقة، فقال‏:‏ لأن السائل يسأل وعنده أي ما يكفيه والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة»‏.‏

وتكسُّب ما زاد على قدر الكفاية - لمواساة الفقير أو مجازاة القريب - أفضل من التخلّي لنفل العبادة‏;‏ لأن منفعة النفل تخصّه ومنفعة الكسب له ولغيره، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الناس أنفعهم للناس»‏.‏

وفي الأشباه لابن نجيم‏:‏ بناء الرّباط بحيث ينتفع به المسلمون أفضل من الحجة الثانية‏.‏

واختار عزّ الدّين بن عبد السلام تبعاً للغزاليّ في الإحياء‏:‏ أن فضل الطاعات على قدر المصالح الناشئة عنها، فتصدّق البخيل بدرهم أفضل في حقّه من قيام ليلة وصيام أيام‏.‏

نذر القربة

14 - يتفق الفقهاء على جواز نذر ما يعتبر قربةً مما له أصل في الوجوب بالشرع، كالصوم والصلاة والحجّ وغير ذلك من العبادات التي شرعت للتقرّب بها إلى الله سبحانه وتعالى، وعلم من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق إيقاعها عبادةً، فهذا النذر يلزم الوفاء به بلا خلاف‏.‏

وقد ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنه يشترط في القربة المنذورة أن لا تكون واجبةً على الإنسان ابتداءً، كالصلاة المفروضة وصوم رمضان‏;‏ لأن النذر التزام، ولا يصحّ التزام ما هو لازم له‏.‏

وقال ابن قدامة موضّحاً مذهب الحنابلة‏:‏ قال أصحابنا‏:‏ نذر الواجب كالصلاة المكتوبة لا ينعقد، ويحتمل أن ينعقد نذره موجباً كفارة يمين إن تركه، كما لو حلف على فعله، فإن النذر كاليمين‏.‏ لكن جاء في شرح منتهى الإرادات‏:‏ ينعقد النذر في الواجب، كَلِلَّهِ علي صوم رمضان ونحوه كصلاة الظّهر، ثم قال‏:‏ وعند الأكثر لا ينعقد النذر في واجب‏.‏

واختلف الفقهاء في نذر القرب التي لا أصل لها في الفروض كعيادة المرضى وتشييع الجنائز، ودخول المسجد وإفشاء السلام بين المسلمين، وقراءة القرآن، وغير ذلك من الأمور التي رغب الشارع فيها‏.‏

فذهب المالكية والشافعية في الصحيح والحنابلة إلى جواز نذر هذه القرب ولزوم الوفاء بها‏.‏ وعند الحنفية لا يصحّ هذا النذر‏;‏ لأن الأصل عندهم أن ما لا أصل له في الفروض لا يصحّ النذر به‏.‏

ومقابل الصحيح عند الشافعية أنه لا يلزم الوفاء بنذر مثل هذه القرب‏.‏

الوصية بالقربة

15 - تستحبّ الوصية بالقربة باتّفاق‏;‏ لأن الإنسان يحتاج إلى أن يكون خَتْم عمله بالقربة زيادةً على القرب السابقة، فتزيد بها حسناته، وقد تكون تداركاً لما فرّط فيه في حياته فتكون الوصية ليدرك بها ما فات‏.‏

ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادةً لكم في أعمالكم» وفي رواية‏:‏ «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادةً في أعمالكم»، ولهذا لا تصحّ الوصية بما لا قربة فيه كوصية المسلم للكنيسة‏.‏

وقد تجب الوصية إذا كان على الإنسان قُرب واجبة كالحجّ والزكاة والكفارات‏.‏

ورغم أن التبرّعات لا تصحّ من الصبيّ إلا أن المالكية والحنابلة وفي قول عند الشافعية أجازوا وصية الصبيّ المميّز بالقرب‏;‏ لأنه تصرّف تمحض نفعاً للصبيّ، فصح منه كالإسلام والصلاة وذلك لأن الوصية صدقة يحصل ثوابها له بعد غناه عن ملكه وماله، فلا يلحقه ضرر في عاجل دنياه ولا أخراه‏.‏

ويختلف الفقهاء في تقديم بعض القرب على بعض في الوصية، وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

قال الحنفية‏:‏ من أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى قدّمت الفرائض منها، سواء قدمها الموصي أو أخرها مثل الحجّ والزكاة والكفارات‏;‏ لأن الفريضة أهمّ من النافلة، والظاهر منه البداءة بما هو الأهمّ، فإن تساوت في القوة بدئ بما قدمه الموصي إذا ضاق عنها الثّلث‏;‏ لأن الظاهر أنه يبتدئ بالأهمّ، وذكر الطحاويّ أنه يبتدئ بالزكاة ويقدّمها على الحجّ، وهو إحدى الرّوايتين عن أبي يوسف، وفي رواية عنه أنه يقدّم الحج، وهو قول محمد، ثم تقدم الزكاة والحجّ على الكفارات لمزيتهما عليها في القوة، والكفارة في القتل والظّهار واليمين مقدمة على صدقة الفطر‏;‏ لأنه عرف وجوبها بالقرآن دون صدقة الفطر حيث ثبت وجوبها بالسّنة، وصدقة الفطر مقدمة على الأضحية، وعلى هذا القياس يقدم بعض الواجبات على البعض، ويقسم الثّلث على جميع الوصايا‏.‏ فما أصاب القرب صرف إليها على الترتيب الذي ذكر‏.‏

وقال المالكية‏:‏ إن ضاق الثّلث عما أوصى به، فإنه يقدم فكّ أسير، ثم مدبَّر في حال الصّحة، ثم صداق مريض، ثم زكاة أوصى بإخراجها من ماله فتخرج من باقي ثلثه بعد إخراج ما تقدم، إلا أن يعترف بحلول الزكاة عليه بتمام الحول فتخرج من رأس المال، كزكاة الحرث والماشية إن مات المالك بعد إفراك الحبّ وطيب الثمر ومجيء الساعي، فتخرج من رأس المال، ثم يخرج من باقي الثّلث زكاة الفطر التي فرط في إخراجها، ثم بعد ذلك كفارة ظهار وقتل خطأ، ثم كفارة يمين، ثم كفارة الفطر في رمضان‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن وصَّى بشيء في أبواب البرّ صرف في القرب جميعها، لعموم اللفظ وعدم المخصّص، ويبدأ منها بالغزو نصّاً، لقول أبي الدرداء‏:‏ إنه أفضل القرب، ولو قال الموصي لوصيّه‏:‏ ضع ثلثي حيث أراك الله تعالى أو حيث يريك الله تعالى، فله صرفه في أيّ جهة من جهات القرب رأى وضعه فيها عملاً بمقتضى الوصية، والأفضل صرفه إلى فقراء أقارب الموصي غير الوارثين‏;‏ لأنه فيهم صدقة وصلة‏.‏

القربة في الوقف

16 - الأصل في الوقف أنه من القرب المندوب إليها، إذ هو حبس الأصل والتصدّق بالمنفعة، والأصل فيه ما روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال «أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أصبت أرضاً لم أصب مالاً قطّ أنفس منه فكيف تأمرني به‏؟‏ فقال‏:‏ إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب، ولا يورث في الفقراء والقربى والرّقاب، وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمول فيه»‏.‏

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة‏:‏ إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»‏.‏

والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف كما قاله الرافعيّ، فإن غيره من الصدقات ليست جاريةً‏.‏

والوقف الذي يترتب عليه الثواب هو ما تحققت فيه القربة، والقربة تتحقق بأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ينوي بوقفه التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى، يقول ابن عابدين‏:‏ الوقف ليس موضوعاً للتعبّد به كالصلاة والحجّ، بحيث لا يصحّ من الكافر أصلاً، بل التقرّب به موقوف على نية القربة، فهو بدونها مباح‏.‏

وفي شرح منتهى الإرادات‏:‏ الوقف تقرّباً إلى الله تعالى إنما هو في وقف يترتب عليه الثواب، فإن الإنسان قد يقف على غيره تودّداً، أو على أولاده خشية بيعه بعد موته وإتلاف ثمنه، أو خشية أن يحجر عليه فيباع في دينه، أو رياءً ونحوه، فهذا وقف لازم لا ثواب فيه‏;‏ لأنه لم يبتغ به وجه الله تعالى‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون الموقوف عليه جهة برّ ومعروف، كالفقراء والمساكين والمساجد وغير ذلك، ولذلك فإن الوقف على الأغنياء صحيح عند جمهور الفقهاء ولكنه لا قربة فيه، جاء في مغني المحتاج‏:‏ إن وقف على جهة لا تظهر فيها القربة كالأغنياء صح في الأصحّ، نظراً إلى أن الوقف تمليك‏.‏ والثاني‏:‏ لا، والمعتمد أنه يصحّ الوقف على الأغنياء وأهل الذّمة والفساق‏.‏ ويقول الحصكفيّ وابن عابدين‏:‏ يشترط في محلّ الوقف أن يكون قربةً في ذاته، أي بأن يكون من حيث النظر إلى ذاته وصورته قربةً، والمراد أن يحكم الشرع بأنه لو صدر من مسلم يكون قربةً حملاً على أنه قصد القربة، وهذا شرط في وقف المسلم‏.‏

قرد

انظر‏:‏ أطعمة‏.‏